أصبحت الدولة الحديثة تعرف بتعدد تنظيماتها الراسخة ذات النظم السليمة والقواعد الثابتة والإجراءات الدقيقة والممارسات القانونية قبل أن تعرف بأي صفات أخرى. في ظل هذه الدولة تعمل هذه التنظيمات على اختلاف أنواعها بواسطة أجهزة ولجان، نشارك في أنشطتها أعضاء أو ضباط تنفيذيين. هل نعرف - حينما نفعل ذلك - حقوق وواجبات العضوية؟ وهل نعرف حينما نشارك في تنظيم ما ما يجب علينا إنجازه قبل وأثناء وبعد كل اجتماع من اجتماعات هذه التنظيمات؟ وهل نعرف ضوابط الحوار التي علينا مراعاتها وآداب السلوك المهذب التي علينا التحلي بها؟ وهل نعرف الاختلافات الأساسية بين أنواع التنظيمات واللجان؟ وقد يجد أحدنا نفسه رئيساً لتنظيم أو للجنة أو لاجتماع، فهل نعرف ونحن نتصدى لهذه المهمة، شروط وأعباء القيادة ومهام المنصب؟ ثم هل يعرف كل منا أن الاجتماع في الغالب ما انعقد إلا ليتداول اقتراحات محددة ليصل فيها لقرار؟ وأن هناك قواعد وإجراءات على كل اجتماع إتباعها ليصل بها للأهداف التي انعقد من أجلها؟ وفي كل اجتماع نسمع العديد من المصطلحات مثل (النصاب) و(نقطة نظام) و(الأغلبية) و(اللجنة) و(المحضر) و(التقرير) وغيرها، تستعمل كل يوم، عرفها بعضنا وجهلها بعضنا الآخر، وبقيت باهتة المعنى مهزوزة الدلالة في أذهان الكثيرين. فهل نعرف على وجه الدقة معانيها ومدلولاتها؟

واجهتنا في العمل العام تساؤلات عديدة من هذا النوع واعترضتنا عدة معضلات إجرائية عالجناها بالاجتهاد حيناً وبالتهرب منها حيناً آخر. لكن مما لا شك فيه أنها جعلتنا نسعى لاكتساب مهارات ومعرفة أكثر. فكلنا يحلم بأن ينتمي لتنظيم نموذجي يضرب به المثل في سلامة الممارسة، ولن يتحقق لنا مثل هذا التنظيم على أرض الواقع بالحظ، بل بالتخطيط السليم وبالعمل الجاد لخلق أجهزته وقنواته ووضع القواعد المتينة التي تضبط أداءه، وباكتساب المهارات والمعرفة التي تضع هذه القواعد موضع التنفيذ.

كانت الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات والجمعيات التطوعية في السودان حتى سنوات قليلة من أكثر التنظيمات حيوية في المنطقة. وكانت تجربة السودان في الإطاحة بالنظم الاستبدادية بقوة حركته الجماهيرية رائدة وفريدة. فقد برهنت القوى المدنية الممثلة في تلك الأحزاب والنقابات والاتحادات الفئوية والمهنية على قوة إرادتها الجماعية وهي تدافع عن حقوق أعضائها وتقود وتنفذ الإضرابات والمظاهرات وغيرها من الأنشطة المطلبية والسياسية. ورغم عدم الاستقرار النسبي في البلاد في ظل الحكومات الوطنية المتعاقبة في السنوات السابقة، إلا أن السودان استطاع أن يحافظ على خدمة مدنية مستقلة وعلى قضاء ذي سجل مشرف في حماية حقوق الإنسان الأساسية، وعلى تلك القاعدة النشطة من التنظيمات المدنية.

لذلك، لم يكن مستغرباً أن تحاول كل النظم الاستبدادية التي تعاقبت على حكم السودان إعادة صياغة وتوجيه هذه التنظيمات لمصلحتها أو حلها أو تفتيتها وتشتيت عضويتها. وبعد تجارب مريرة ضد هذه الأنظمة، وبعد أن تهاون السودانيون كثيراً في إدارة أنفسهم في ظل الحكومات المتعاقبة، أتضح لهم أنه ليس كافياً أن يناضلوا لاستعادة الديموقراطية، بل عليهم أن يحافظوا عليها ويرسخوا مفاهيمها ويعملوا بجد على توطيد دعائمها ويعززوا الإجماع على جدواها بين المواطنين. فكلما ازدادت قاعدة الاقتناع بجدواها وفاعليتها، استقرت.

وواحدة من وسائل المحافظة على الديموقراطية هي ممارستها بطريقة صحيحة. فرغم أن تنظيمات المجتمع القائمة تؤكد التزامها بالنهج الديموقراطي، إلا أن الواقع لا يعكس ذلك. فبناء أغلبها ضعيف، ولوائحها، إن وجدت، فضفاضة لدرجة جعلت أعضاءها يستهينون بها ويتجاهلوا قنواتها.

لكل هذه الأسباب ولغيرها رأينا أنه من واجبات المواطنة علينا أن نفرد هذا الموقع لنتعرف من خلاله على قواعد وإجراءات الممارسة الديموقراطية العملية عل هذه المعرفة تعطينا أدوات أحسن لتقييم تنظيماتنا وتقويمها والارتقاء بأدائها.

تطور فقه المداولات عبر السنين، وتراكمت قواعده وإجراءاته نتيجة السوابق التي جاءت لتوضح أو تفسر أو تحسم القضايا الإجرائية التي اعترضت سبيل التنظيمات المختلفة، أو نتيجة أحكامٍ جديدة سنت سداً للثغرات. فصدرت في بريطانيا وأمريكا على وجه الخصوص عشرات الكتب التي غطت مجال قواعد وإجراءات المداولات، وتتابعت الدوريات التي تعنى بها، كما قامت معاهد ومؤسسات وجمعيات متخصصة لتعنى بتأهيل المستشارين البرلمانيين وتدريب غيرهم من الكوادر في مجال قواعد وإجراءات المداولات. تقدم هذه المؤسسات أيضاً الخدمات الاستشارية وتعد وتدير المقررات التدريبية لأي تنظيم يطلبها.[1]

كان كتاب قواعد المداولات لهنري مارتن روبرت[2] أهم الإصدارات في هذا المجال. فقد جمع الكتاب الأسس والقواعد العامة للمداولات، ووثق التقاليد والأحكام المتراكمة نتيجة السوابق الإجرائية والقضائية عبر القرون وجمع القرارات التي سيرت اجتماعات البرلمان البريطاني ومجلس النواب الأمريكي، واللذان أثرا على الممارسة العامة في بلديهما وفي أغلب الديموقراطيات الحديثة، واستعمل هذه الخبرة ليغطي بها احتياجات أغلب أنواع الاجتماعات.

أصبح هذا الكتاب مرجعاً أساسياً في قواعد المداولات ومرشداً في تنظيم أعمال اجتماعات التنظيمات المدنية في بريطانيا وأمريكا وفي العديد من بلاد العالم الأخرى. نشر الكتاب أول مرة في 1876، وظهرت منه حتى الآن تسع طبعات وبيعت منه أكثر من أربع ملايين نسخة، وصدرت آخر طبعة Robert’s Rules of Order Newly Revised, في 1990 في 706 صفحة. أصبح هذا الكتاب - بحكم عمره - شديد التفصيل لدرجة أخافت القارئ العادي منه. فقد حوى عدداً كبيراً من المصطلحات والألفاظ والتعبيرات القديمة التي يصعب فهمها مباشرة من الصيغة التي تنطق بها. فـ (الوضع على المائدة) مثلاً يعني تأجيل مسألة، و(المسألة السابقة) تعني اقتراحاً بقفل باب النقاش، وهكذا. زيادة على هذه التعبيرات التي عكست تقاليد الاجتماعات في القرن التاسع عشر في بريطانيا وأمريكا، حفل الكتاب أيضاً بصيغة اقتراح لكل مسألة تخطر على البال. وبالتالي صار معقداً وصعباً وإن لم يقلل ذلك من أهميته كمرجع حجة وكتاب ثقة حتى يومنا هذا.

لصعوبة هذا الكتاب، حاولت كتب أخرى أن تكون سهلة بسيطة. فقد جاء في تصدير كتاب أليس استيرجس: أسس الإجراءات البرلمانية The Standard Code of Parliamentary Procedure الذي نشر أول مرة في 1950 وقام بمراجعة الطبعة التي بين أيدينا[3] – طبعة 1993 – المعهد الأمريكي للبرلمانيين، بأنه هو كتاب روبرت بعد أن أزال منه كل المادة القديمة. جاء هذا الكتاب في 277 صفحة بعد أن تخلص فعلاً من عدد كبير من الاقتراحات نادرة الاستعمال، فجاء في لغة مباشرة ومصطلحات واضحة الدلالة متوافقة مع ممارسة التنظيمات الحديثة، ونجح بالتالي في أن يكون (مرجعاً عاماً) آخر من المراجع الأمريكية العديدة.

أما المصادر البريطانية فقد تميز بعضها بالسهولة والمباشرة. فقد كان كتاب ولتر سترين: أبجديات رئاسة الاجتماعات: Citrine’s ABC of Chairmanship. دليلاً لا تتجاوز صفحاته المائة وعشرين، لكنه حاو لأغلب ما يحتاجه الاجتماع العصري من قواعد وإجراءات أساسية حتى أصبح من المصادر البريطانية المفضلة.[4]

أما كتاب ارسكين مى[5] الممارسة البرلمانية: Parliamentary Practice الذي وثق ممارسات وإجراءات البرلمان البريطاني بدقة شديدة، والكتب التي تعالج القوانين الخاصة بالشركات والمؤسسات فقد أسهبت إسهاباً جعلها أقرب لدوائر المعارف أو قواعد المعلومات منها للكتب العامة.[6]

لم تخل المكتبة السودانية تماماً من المرجع المفيد. فقد صدر كتابان هامان ورائدان في إشاعة أدبيات التنظيم والاجتماع بين قطاعات المواطنين، كان لهما أثرهما الملحوظ في نمو التنظيمات المدنية على اختلافها في السودان. هذان الكتابان هما: الجمعيات داخل المدرسة وخارجها: إرشادات للمبتدئين في الديمقراطية العملية الذي ألفه ف. ل. قريفس ومكي عباس وصدر عن مصلحة المعارف السودانية في عام 1943،[7] والطريق إلى البرلمان لإسماعيل الأزهري الذي صدر عن دار المعارف للطباعة والنشر في الخرطوم في عام 1946،[8]وطبع مرة ثانية في دار الثقافة ببيروت في 1965.

حاول الكتاب الأول أن يغطي حاجة التنظيمات المدنية لقواعد المداولات وذلك بأن يبدأ بتدريب المعلمين حتى يقوموا بتدريسها لتلاميذ المدارس وتدريبهم على إدارة جمعياتهم وندواتهم. اعتمد الكاتبان في هذا العمل القيم على التجربة البرلمانية البريطانية وإن لم يثبتا ذلك صراحة. كان هذا الكتاب أول إصدار في ما أسماه الكاتبان سلسلة كتب الوطني الحق، وقد أعد دعماً لتجربة التربية بالممارسة أو التربية العملية التي قام عليها معهد التربية ببخت الرضا الذي أسسه ف. ل. قريفس في مدينة الدويم بالسودان عام 1934. لم يوزع هذا الكتاب حسب علمنا على نطاق واسع، فقد أعد لتدريب المعلمين وبالتالي فهو مجهول للكثيرين.

جاء في مقدمة هذا الكتاب أنه كتب لفائدة أولئك الذين التحقوا ببعض الجمعيات ومارسوا أعمالها إلى حد أخذوا يتساءلون عنده عن الأسباب التي دعت إلى اتخاذ طرق مخصوصة للسير في أعمال الجمعيات وإدارتها، وصاروا يفكرون في الأوجه التي تحل بها المشكلات التي تواجههم عندما ينتخبون لعضوية اللجان أو لشغل وظائف إدارية في جمعياتهم. ثم بعد أن حدد الكاتبان طريقة استعمال الكتاب وكيف يجد القارئ المادة التي ينشدها، تناولا بالشرح أيضاً شروط النجاح في الجمعية، قائلين:

“إن القواعد الحسنة لا تكفل وحدها النجاح للجمعية، إذ نجاح الجمعية يتوقف فوق كل شيء على توافر صفات خلقية كثيرة في الأعضاء التنفيذيين وفي بقية أعضاء الجمعية. فإذا لم تسد روح التعاون بين الأعضاء، وإذا لم يكن الرئيس منصفاً غير ساع وراء تمجيد نفسه، وإذا لم يكن السكرتير من المجدين الذين يعتمد عليهم، وإذا لم يكبح محبو الكلام أنفسهم ويقصروا كلامهم على ما هو ضروري، نقول إذا لم تتوافر في الأعضاء هذه الصفات وصفات أخرى كثيرة، آبت الجمعية بالفشل لا محالة رغم قواعدها الحسنة، ولعله كان من الأصوب أن نذكر هذه النقطة في مقدمة الشروط الأساسية لنجاح الجمعية، لأن أخلاق الأعضاء هي في الواقع أساس نجاح الجمعية أو فشلها.”[9]

أما كتاب الأزهري فقد استفادت منه العديد من التنظيمات في السودان وأشارت بعضها إليه وتناقلت الأخرى بعض محتوياته، وتبناه اتحاد طلاب جامعة الخرطوم كمرجع عام. حوى هذا الكتاب 1025 مادة خاصة بإنشاء الجمعيات وتشكيل اللجان وقواعد المداولات. لم يستهن الأزهري بهذه الأمور التنظيمية ولم يعتبرها أموراً شكلية، بل أخذها مأخذ الجد وأدلى بدلوه فيها مستعيناً بالمصادر المتداولة في ذلك الوقت التي أثبتها في ذيل كتابه، فكان منها الأوضاع البرلمانية لفؤاد كمال، ومبادئ القانون الدستوري المصري والمقارن لمصطفى صادق ووايت إبراهيم، وقواعد المداولات لروبرت الذي أشرنا إليه أعلاه.

دعا الأزهري لتكريس قواعد المداولات في المجتمع وترسيخها في عقول المواطنين، ونبه لأهمية إعداد الناشئة إعداداً يتماشى، حسب قوله، مع النظم البرلمانية حتى تختلط بالدم وتمتزج بالروح وتصبح جزءاً من النفس لا تتجزأ، فتنشأ مجبولة على تقديس القوانين مفطورة على حب النظام. ودعا لتأهيل الشباب لعضوية البرلمان يوماً ما، وحث على نشر الأساليب البرلمانية بإنشاء الجمعيات في المدارس والمعاهد والكليات. فالمواطن، حسب قوله، قد أصبح يدرك ما له من حقوق وما عليه من واجبات نحو نفسه ونحو وطنه، ويدرك أيضاً أن الفائدة العامة لا تتحقق إلا بالعمل المشترك في جماعات تخضع لدستور وتسير على نظام. والجماعة أو الجمعية، في أبسط صورها، أفراد يربطهم مبدأ واحد أو غرض مشترك، ولهم نظام معين يسيرون عليه لإدراك هذا الغرض وتحقيق ذلك المبدأ.[10]

اعتمد المواطن على ما علق في الذاكرة من هذا وذاك من تلك المصادر القليلة، وعلى الاجتهاد وعلى الموروث الشعبي والتقاليد السائدة في أساليب الاجتماع والحوار. وكانت هذه المعرفة كافية بعض الأحيان. فقد لاحظ الدارسون مدى الفائدة التي جناها المواطن من تراثه وهو يمارس أولى تجاربه البرلمانية في أواسط الخمسينات حين شارك في برلمان الحكم الذاتي ثم في برلمانات ما بعد الاستقلال. فرغم حداثة تلك التجربة وقلة تعليم أغلبية العضوية المنتخبة لتلك الهيئات، إلا أن النائب البرلماني السوداني كان لبقاً ومراعياً للأسس والقواعد. فقد تعلم بسرعة بالمشاهدة وحدها ودون الإطلاع على اللوائح المكتوبة. فعرف مثلاً أنه من غير المناسب أن يغادر مقعده أثناء مخاطبة الرئيس للمجلس، أو أن يمر بين المنصة وبين أي عضو واقف للحديث، أو أن يتلفظ بكلمات نابية داخل القاعة، أو أن يتحدث دون أن يؤذن له، أو أن يوجه الكلام لغير الرئيس. كما عرف أن عليه إذا أراد الخروج خلال الاجتماع أن يقف حتى يراه الرئيس ويأذن له.[11] ولم يكن المواطن العادي أقل وعياً، فقد ورد في تقرير لجنة الانتخابات الأولى في السودان، وهي لجنة كل أعضائها من الأجانب، أنه بالرغم من تفشي الأمية بين المواطنين فقد مارس الناخبون حق التصويت بوعي وإدراك.

وكانت هناك مصادر أخرى ساهمت ولو بقدر يسير في تدريب المواطن على إدارة اجتماعاته. فقد عرف السودان أشكالاً مختلفة للهيئات التشريعية في ظل النظم الديموقراطية المتعاقبة وفي غيرها، وكانت لهذه الهيئات قواعد وإجراءات استمدت أغلبها من التجربة البرلمانية البريطانية. ساعدت هذه الهيئات بقدر مناسب في ترقية الوعي التداولي وإشاعة مصطلحاته، لكن انحصرت فائدتها في ردهاتها وبين النواب ولم تتعدها لتكون تجربة متاحة لكل مواطن. وبالتالي لم تساهم كثيراً في ترقية الوعي العام في هذا المجال.[12]

كذلك يجد المتتبع للحركة النقابية السودانية والمطلع على أدبياتها وتجربتها، أنها حظيت بسمعة دولية وإقليمية طيبة وذلك لمساهماتها المشهودة وتضحياتها في تأسيس الحياة الديموقراطية السليمة في البلاد. فقد كان لهذه الحركة سجل مشرف في النضال ضد كل النظم الاستبدادية وضد الفساد والظلم بكل أنواعه. كما أنها تميزت بوعي سياسي واجتماعي متقدم ومؤثر رغم سيادة الأمية على قطاع كبير منها. فقد أرست النقابات أساليب التنظيم والحوار وطرق اتخاذ القرار وعممتها وسط قواعدها خصوصاً بين العمال والمزارعين. كما أرست الحركة الطلابية ممثلة في اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وعياً تنظيمياً باكراً بين الطلاب. فكان لكل تنظيم من التنظيمات النقابية والفئوية نظام أساسي متين اتبعه بانضباط، وتقيد بكل ما جاء فيه من أحكام ومن قواعد وإجراءات. فكانت هذه التنظيمات أمثلة في الممارسة المنضبطة ومدارس تعلم منها جمهور المواطنين.

نظمت أغلب الأحزاب السياسية السودانية نفسها لتواجه متطلبات العمل الجماهيري العريض، وكان لبعضها - زيادة على نظمها الأساسية - وثائق أخرى اعتمدتها لتضبط إجراءاتها. هذه الوثائق، إن وجدت فهي، للأسف، ليست متاحة خارج إطار هذه التنظيمات. فقد بذلنا جهداً كبيراً لكي نجد نسخة من كتاب عبد الخالق محجوب: كيف تعقد اجتماعاً ناجحاً؟ دون جدوى. وهذه المحاولة في حد ذاتها تؤكد قلة المتاح من المادة المنشورة في هذا المجال وسط الأحزاب السودانية.

فيما عدا المصادر السودانية التي أشرنا إليها أعلاه التي ما عادت في متناول المواطن، بحثنا في المكتبة العربية عن الكتاب الذي يساعدنا في أن نتعرف على كيفية ممارسة وتطبيق مفاهيم ومبادئ المشاركة العملية السليمة داخل تنظيمات المجتمع. وبحثنا على وجه التحديد عن أي مصدر يعيننا على فهم قواعد المداولات والأسس التي قامت عليها، فوجدنا فراغاً كبيراً وغياباً يكاد يكون كاملاً للمعلومة اللازمة. ليس ذلك فحسب، بل اتضح لنا أن المجال لا يشغل بال المفكرين بالقدر الذي يستحقه، فما ذكروه إلا نادراً. المجال مهمل لا شك في ذلك، لكنه إهمال ناتج لا عن تجاهل فيما نظن، بل عن جهل بوجود علم متكامل يحكم أداء كل تنظيم داخل الدولة ويضبطه بنظرياته وقواعده وإجراءاته.

ولهذه الأسباب مجتمعة رأينا أن هناك حاجة ملحة لأن نساهم في ملء بعض هذا الفراغ لنساعد بذلك الأفراد وما يمثلون من طبقات متباينة في المجتمع، وما يحملون من أفكار وتيارات فكرية مختلفة، وما يدافعون عنه من مصالح، في أن يتواصلوا داخل وعبر تنظيماتهم بطريقة منهجية منظمة، ويستطيعوا أن يقرروا بكفاءة - كجماعة - عمل شيء أو اتخاذ موقف موحد، أو يتمكنوا من تكوين تنظيم جديد. فلقد شعرنا بهذه الحاجة من خلال مشاركتنا في عضوية ورئاسة عدد لا بأس به من الهيئات التداولية ومن مساهماتنا في العمل العام وما لاحظناه من ثغرات كان يمكننا تلافيها إذا وجدنا دليلاً نستعين به. وضعنا هذا الكتاب، إذن، وفي تقديرنا أنه يصلح لأن يكون مصدراً يستفيد منه المواطن أياً كان موضعه، و(مرجعاً عاماً) لأي هيئة تداولية ترتضي أن تتبناه.

الفهم الذي ينطلق منه هذا الموقع هو أن الديموقراطية الفعالة تقوم على ثلاثة أعمدة هي: كفالة وحماية حقوق الإنسان الأساسية، سيادة حكم القانون، والانتخابات الحرة النزيهة. وهي بالتالي نظام (تمثيل) يعبر عن (تفويض) المجموعة لسلطاتها وصلاحياتها لمن ينوب عنها، لكن تظل المجموعة رغم ذلك التفويض هي صاحبة السلطة العليا. وهذه السلطة لا يمكن أن تمارس في مختلف مستويات الهيئات التداولية بطريقة سليمة إلا بوجود آليات وضوابط تضمنها وإلا ضاعت وسط الفوضى. تعرف هذه الآليات والضوابط بقواعد المداولات. هذا الفهم نراه كافياً لأغراضنا مهما اختلفت الديموقراطية في صيغها القانونية وفي أشكالها وفي مفاهيمها.

 يحاول هذا الموقع إذن أن يجيب على الأسئلة التالية:

n  ما هي آليات الممارسة الديموقراطية السليمة في الواقع العملي؟

n  ما هي التنظيمات التي تنطبق عليها هذه الآليات؟

n  كيف تقوم هذه التنظيمات وكيف تدار وما هي الوثائق التي تضفي الشرعية عليها؟

القصد من دراسة قواعد وإجراءات المداولات هو التعرف على المكونات الأساسية لكل أنواع التنظيمات، ودراسة خصائصها وكيفية إدارتها وإدارة اجتماعاتها، والتعرف على حقيقة التداول ومقاصده الصحيحة وآلياته وفنونه والخلفية الفكرية والنظرية التي يقوم عليها. فعنينا في هذا الموقع بهذه الآليات والضوابط وبالتالي بجوانب الممارسة العملية التي نرى أهمية الالتزام بها ضمن ترتيبات أخرى لتحقيق مضامين ومبادئ الديموقراطية. فزيادة على ما توافر لدينا من مصادر أجنبية، راجعنا التجربة السودانية والقيم والتقاليد المرعية في مجتمعاته في قواعد الاجتماع وآداب السلوك العام التي أوجزنا جانباً منها في تمهيد هذا الكتاب. وراجعنا المصادر الوطنية على قلتها، والقانون السوداني خصوصاً المواد التي تنظم عمل الشركات والمؤسسات،[13]والدساتير الانتقالية، والمواثيق والقوانين المقترحة للعمل السياسي والاجتماعي والنقابي،[14]وبعض المصادر التي عنيت بالقانون الإداري.[15] فكان هدفنا من هذا التقصي هو أن نتبين الجوهر المشترك الذي تقوم عليه التطبيقات العملية للديموقراطيات الراسخة على مستوى التنظيمات المختلفة ومؤسسات وأجهزة الدولة، ونستكشف مبادئها الإنسانية الأساسية التي قامت عليها.[16] أما المفاهيم التي تتعلق مباشرة بالديموقراطية كمثل عليا أو فلسفة، أو تتعلق بأنواعها وجدواها كنظام للحكم (أو تمثيل إرادة المجموعة)، فلم تكن مجال بحثنا المباشر.[17]

ترتبط التنظيمات في الدولة ارتباطاً وثيقاً وتتأثر تأثراً مباشراً بنظام الحكم القائم. فقد اتضح أنها تكون أحسن نمواً وتطوراً في ظل الدولة القانونية المستقرة التي تقر وترعى التعددية السياسية والفكرية والثقافية والعرقية والدينية، وتضمن حقوق الإنسان الأساسية، وتقر بالتالي بوجود الآخرين وبالرأي الآخر وبتعدد المناهج والدعوات والتنظيمات. فتنظيمات المجتمع في حقيقتها وجه هام من وجوه التعبير العملي عن التعددية. وبالتالي، اهتدت قواعد المداولات التي تضبط نشاط هذه التنظيمات بمبادئ ومفاهيم النظم التعددية النيابية السليمة وبثوابتها، وأصبحت جزءاً أصيلاً منها لا تتكامل أجزاؤها إلا فيها. وأقرت بعض النظم السياسية الأخرى مشاركة الشعب في صنع القرار، لكنها فسرت هذه المشاركة على هواها، فصاغت الدستور نيابة عن الشعب ووضعت هياكل الدولة وفق رؤاها لطبيعة السلطة التي في يدها وتصورها للمصلحة العامة التي ترعاها. وقامت بعض التنظيمات في مثل هذه النظم على نفس هذه القاعدة الخاطئة.


 

[1] أشهر هذه المؤسسات في الولايات المتحدة الآتي:

             ·             The National Association of Parliamentarians, 213 South Main Street. Independence, Missouri 64050-3850, Tel (816) 833-3892, Fax (816) 833-3893.

             ·             The American Institute of Parliamentarians,10535 Metropolitan Ave., Kensington, Maryland 20895-2627 Tel (301) 946-9220 Fax (301) 949-5255.

             ·             The National Conference of State Legislative, 1050 17th Street, Suite 2100, Denver, Colorado 80265.

             ·             The American Society of Legislative Clerks and Secretaries.

[2] Robert, Sarah Corbin, et al. Robert’s Rules of Order Newly Revised. New and Enlarged, Scott, Foresman Company; 1990 ed. Glenview, Illinois, London: c1990: 706 pages.

[3] Sturgis, Alice. The Standard Code of Parliamentary Procedure. New and revised, Third McGraw Hill, Inc.; Revised by the American Institute of Parliamentarians. New York; 1993: 281 pages.

[4] Cannell, Michael, and Citrine, Norman. Citrine’s ABC of Chairmanship. 4th ed. Edited by London: NCLC Publishing Society, 1994: 122 pages.

[5] May, Erskine. Parliamentary Practice (The Law, Privileges, Proceedings and Usage of Parliament). Butterworths; Twenty-first ed. Boulton, C.J. et al, ed. London; 1989: 1079 pages.

[6] As examples see: Lawton, P., Rigby, E. Meetings: Their Law and Practice. Fifth ed. London, Longman’s Group U.K.; 1992: 424 pages. &

Shearman, I. Shakleton on the Law and Practice of Meetings. Eighth ed. London, Sweet and Maxwell; 1991: 330 pages.

[7] قرفس، ف. ل. ومكي عباس. الجمعيات داخل المدرسة وخارجها: إرشادات للمبتدئين في الديمقراطية العملية. الخرطوم: مصلحة المعارف السودانية، 1943، صفحة 3.

[8] إسماعيل الأزهري. الطريق إلى البرلمان. (الطبعة الثانية) بيروت: دار الثقافة 1965، 319 صفحة.

[9] قرفس. نفس المصدر السابق صفحة 3.

[10] إسماعيل الأزهري. نفس المصدر السابق (أماكن متفرقة من المقدمة).

[11] عثمان محمد حسن. التقاليد البرلمانية في السودان. جريدة الأيام 19 سبتمبر 1988.

[12] على سبيل المثال: اللائحة الداخلية: الجمعية التأسيسية التي سنها الدكتور المبارك الفاضل شداد رئيس الجمعية التأسيسية بموجب المادة 62 من دستور السودان المؤقت (المعدل سنة 1964)، 1966: 83 صفحة، ولائحة تنظيم إجراءات الجمعية التأسيسية لسنة 1986 (معدلة حتى سبتمبر 1988). 55 صفحة.

[13] قانون الشركات لسنة 1925: قوانين السودان. المجلد الأول 1901-1925، الطبعة الخامسة، مراجعة حتى 31 ديسمبر 1975: قانون الشركات صفحات 364-385 من الطبعة الإنجليزية (الضوابط المدرجة في القائمة (أ) من الجدول الأول).

[14] أنظر: التجمع الوطني الديموقراطي: وثائق مؤتمر لندن: فبراير 1992: 42 صفحة، ووثائق مؤتمر القضايا المصيرية 23 يونيو 1995.

[15]محمد محمود أبو قصيصة. مبادئ القانون الإداري السوداني. دار جامعة أم درمان الإسلامية للطباعة والنشر، أم درمان، 1990: 90 صفحة.

[16] نشرنا أجزاء لصيقة بهذا المجال في جريدة الأيام السودانية في حلقات في الفترة من 12 يوليو 1987 إلى 1 سبتمبر 1987 أوجزنا فيها بعض القواعد التي تنظم أعمال الهيئات التداولية. راجع: أحمد الصافي. الأداء العام. جريدة الأيام السودانية 12، 13، 14، 16 يوليو، 30، 31 أغسطس، 1 سبتمبر 1987.

[17] أنظر لنقاش بعض هذه الجوانب في المصادر العربية التالية: سعد الدين إبراهيم وآخرون (محررون). ندوة أزمة الديموقراطية في الوطن العربي (بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية)، ليماسول - قبرص، 26-30 نوفمبر 1983: 928 صفحة؛ وحيدر إبراهيم علي (تحرير) الديموقراطية في السودان: البعد التاريخي والوضع الراهن وآفاق المستقبل. أبحاث ندوة تقييم التجارب الديموقراطية في السودان: القاهرة 4-6 يوليو 1993.

 

Copyright © 2001by Dr. Ahmad Al Safi: Practical Democracy (الديموقراطية العملية). All Rights Reserved
Last modified: April 30, 2003